يبدو أن الثورة الصناعية الرابعة تمضي قدمًا بكامل طاقتها على قدم وساق، وذلك مع التقنيات الجديدة التي تغير العالم كل يوم جديد: كالرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)، والعملات المشفرة، والعالم الافتراضي (الميتافيرس)، والبلوكتشين، والبيانات الضخمة ... وقد يكون من الصعب غربلة كل هذه التقنيات الجديدة وسط الحماس والفوضى السائدين في الساحة حاليًا، كما قد يصعب أحيانًا التفرقة بين الأفكار البراقة الخادعة قصيرة الأجل، والأفكار الثورية الحقيقية.
أما الآن، فقد دخل لاعب جديد إلى الساحة: وهو الذكاء الاصطناعي (AI)، الذي وصفه الأب المؤسس والعالم المعرفي جون مكارثي بأنه "علم وهندسة صناعة آلات ذكية".
إن الذكاء الاصطناعي موجود بالفعل منذ عقود، إلا أن إصدار النماذج اللغوية الكبيرة والمدربة مسبقًا على كميات كبيرة من البيانات (أو GPT) من قبل شركة OpenAI في نوفمبر 2022 قد غيّر قوانين اللعبة على الفور. فبعد خمسة أيام فقط من الكشف عنه، اجتذب نموذج ChatGPT-3 مليون مستخدم في واحدة من أسرع عمليات إطلاق المنتجات الاستهلاكية في التاريخ، تاركة جوجل، وعملاق البحث الصيني Baidu، ومجموعة أخرى من الشركات الناشئة - كلها تتدافع لإطلاق أدوات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها في وقت قياسي لمحاولة اللحاق بشركة Open-AI.
ومنذ ذلك الحين، فقد انتشرت البرامج التي تعمل بالذكاء الاصطناعي في مختلف الصناعات، وتتخذ الإمارات العربية المتحدة بالفعل خطوات لاحتضان الإمكانات الهائلة لتلك البرامج بالكامل: ووفقًا لتقرير صادر عن جوجل بعنوان "مستقبل الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، فمن المتوقع أن تقوم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بتوليد 320 مليار دولار من القيمة المضافة المذهلة من الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030؛ كما أنه من المتوقع أن تنمو مساهمتها الاقتصادية سنويًا بمعدلات تتراوح من 20٪ إلى 34٪ في جميع أنحاء المنطقة، بفضل قيادة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لهذا الاتجاه.
برنامج حقيقي وطموح للذكاء الاصطناعي في الإمارات
لقد كشفت العديد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، في السنوات الأخيرة ، عن استراتيجياتها الخاصة بالذكاء الاصطناعي ، مما أظهر التزامها بتسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي. كما أصدرت دولة الإمارات العربية المتحدة خطتها الحكومية في عام 2017 كجزء من مئوية الإمارات 2071 ، وهي خطة حكومية للعقود الخمسة المقبلة ، بهدف أن تصبح الدولة واحدة من رواد العالم في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2031. وقد حددت هذه الاستراتيجية، بتوجيه من مكتب وزير الدولة للذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي وتطبيقات العمل عن بعد في دولة الإمارات العربية المتحدة، ثمانية أهداف رئيسية:
1. بناء سمعة طيبة للدولة كوجهة للذكاء الاصطناعي: ولتحقيق هذه الغاية، فإن العلامة التجارية الإماراتية لختم الذكاء الاصطناعي (UAI) تهدف إلى اجتذاب المواهب والشركات من جميع أنحاء العالم للقدوم إلى الإمارات العربية المتحدة لاختبار الذكاء الاصطناعي وتطويره.
2. زيادة الأصول ذات الصفة التنافسية لدولة الإمارات العربية المتحدة في القطاعات ذات الأولوية من خلال نشر الذكاء الاصطناعي: حيث تستهدف الدولة خمسة قطاعات تجارية ذات أولوية حيث تقوم حكومة الإمارات العربية المتحدة بالتمويل أو الدخول كوسيط لتسهيل المشاريع التجريبية بهذه القطاعات والتي يتم تصميمها سواء من قبل القطاع العام أو الخاص أو الائتلافات بين المؤسسات. فعلى سبيل المثال، يعمل مكتب الذكاء الاصطناعي بالفعل مع العديد من الشركات الخاصة لتطوير برامج تجريبية تستخدم الحوسبة الكمية لدعم التشخيصات الطبية وإدارة إمدادات الطاقة العالمية.
3. تطوير نظام بيئي خصب للذكاء الاصطناعي: حيث تهدف الحكومة إلى بناء علاقات مع الخبراء من خلال بناء شبكة متكاملة من باحثي الذكاء الاصطناعي والمتخصصين بالقطاع وخبراء السياسة من جميع أنحاء الإمارات العربية المتحدة، مع توفير مجموعة متنوعة من التمويل والشراكة والاحتضان والتوجيه وغيرها من الفرص لشركات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المحلية والأجنبية.
4. اعتماد الذكاء الاصطناعي عبر خدمات العملاء لتحسين حياة الناس وتطوير الحكومة: إن "برنامج التحديات الوطنية للذكاء الاصطناعي" هو برنامج يعزز الأفكار الإبداعية عبر الحكومة والجامعة والقطاع الخاص لمواجهة التحديات المميزة لدولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك من خلال تقديم التمويل والإرشاد وإتاحة الوصول إلى البيانات للشركات والمؤسسات كجوائز لمشاركتها بالبرنامج. وفي الوقت نفسه، فإن مجلس الإمارات للذكاء الاصطناعي والبلوكتشين، يهدف إلى تحديد كيف وأين يمكن دمج الذكاء الاصطناعي في الحكومة وما هي البنية التحتية الداعمة التي تتطلبها لتحسين تجربة وتكلفة المعاملات والخدمات الحكومية.
5. استقطاب وتدريب المواهب للوظائف المستقبلية التي يتيحها الذكاء الاصطناعي: حيث أن حوالي 43٪ من أنشطة العمل الحالية في الإمارات العربية المتحدة تتميز بإمكانية التشغيل الآلي المؤتمت وذلك عبر قطاعات رئيسية مثل: الإدارة والحكومة والصناعة والمقاولات. وتساعد الدورات المجانية على زيادة الوعي العام وفهم تقنيات الذكاء الاصطناعي، كما أن عقد الدورات المتخصصة لتطوير مهارات المهنيين ذوي المهارات الرقمية والتحليلية الخبيرة وكذلك طلاب العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) من شأنه أن يساعد على زيادة عدد خبراء الذكاء الاصطناعي.
6. جلب القدرة البحثية الرائدة على مستوى العالم للعمل مع الصناعات المستهدفة: حيث سيقوم المعهد الوطني للذكاء الاصطناعي بتجميع أفضل الخبرات المحلية والعالمية في المنطقة، وتشجيع المزيد من البحث والتطوير والتعاون والترويج لهذا المجال، في حين سيدعو برنامج المفكرين الرئيسيين خبراء الذكاء الاصطناعي للمشاركة في ورش العمل والمحاضرات لدى الجامعات والشركات المحلية. وبالإضافة إلى ذلك، سيعمل مكتب الذكاء الاصطناعي على إنشاء مكتبة للذكاء الاصطناعي، وهي مكتبة رقمية توفر الوصول بحرية للأبحاث والأوراق باللغتين الإنجليزية والعربية.
7. توفير البيانات والبنية التحتية الداعمة الضرورية لتصبح الدولة منصة اختبار للذكاء الاصطناعي: فمن خلال مزيج متنوع يضم أكثر من 200 جنسية مقيمة في الإمارات العربية المتحدة، تتمتع الدولة بفرصة فريدة لتصبح رائدة في البيانات المفتوحة المتاحة للتدريب وتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي. وسيقوم برنامج مشاركة البيانات بتوفير بيانات جاهزة ومعيارية للذكاء الاصطناعي، يمكن مشاركتها والوصول إليها بحرية، ويتم جمعها من خلال معايير متسقة للبيانات. وحيث سيتطلب ذلك بنية تحتية آمنة للبيانات سوف تكون ضرورية لتسهيل مشاركة البيانات ومعالجة مخاوف الخصوصية.
8. ضمان الحوكمة القوية والأنظمة اللائحية الفعالة: حيث تطمح دولة الإمارات العربية المتحدة إلى الاضطلاع بدور رائد في تطوير الذكاء الاصطناعي المسؤول وتعزيز تنظيمه، بدءًا من مراجعة الحوكمة الوطنية لقضايا مثل: إدارة البيانات والأخلاقيات والأمن السيبراني، إلى جانب أحدث الممارسات الدولية في التشريعات والمخاطر العالمية عن الذكاء الاصطناعي وكذلك المؤتمرات الدولية وطاولات النقاش.
وبفضل إمكانات الذكاء الاصطناعي التي تقوم بتوليد ما يصل إلى 335 مليار درهم إماراتي في اقتصاد دولة الإمارات العربية المتحدة، تركز الحكومة استثماراتها على الأشخاص والصناعات التي تعتبر مفتاح نجاح الدولة، وذلك بالبناء على نقاط قوتها الحالية أولًا، ثم التركيز بعد ذلك على الفرص حيثما يمكن الوصول إليها. وعلى سبيل المثال، فقد لعبت إمكانية تحقيق مكاسب بقيمة 136 مليار درهم في قطاعي الخدمات والتجارة دورًا مهمًا في قرار اختيار السياحة كقطاع ذي أولوية، لا سيما أنه من المحتمل أن يكون لها تداعيات على قطاعات خدمية أخرى.
الكل قد التحق بركب قافلة الذكاء الاصطناعي
إن لاعبي رأس المال الاستثماري يعملون أيضا على تعزيز تنامي الذكاء الاصطناعي في المنطقة. فعلى سبيل المثال، دخلت Shorooq Partners، وهي شركة رأس مال مغامر ناشئة كانت قد تأسست عام 2017 بأبوظبي، خلال فبراير الماضي، في شراكة مع شركة الأسهم الخاصة جلف كابيتال (GC)، وذلك لدعم Santechture، وهي شركة برمجيات قائمة على السحابة تقدم التكنولوجيا الصحية كخدمة (SaaS) وتستفيد من أحدث التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا العميقة لتقديم حلول مبتكرة لمقدمي الرعاية الصحية.
إن الذكاء الاصطناعي يعمل في الواقع على طمس الخطوط الفاصلة بين الرعاية الصحية والمؤسسات والتكنولوجيا المالية. وعلى غرار Santechture، فإن شركة Klaim لديها رسالة تتمثل في تبسيط مدفوعات الرعاية الصحية من خلال منصة SaaS لإدارة المطالبات القائمة على الذكاء الاصطناعي والمستخدمة في عيادات دبي وصيدلياتها ومستشفياتها، مسجلة أكثر من 1.5 مليون معاملة.
وفي الواقع، فقد قامت صناعة الرعاية الصحية نفسها باحتضان الذكاء الاصطناعي في العديد من المجالات، بما في ذلك التشخيص والتطبيب عن بعد واكتشاف الأدوية. وعلى سبيل المثال، قامت وزارة الصحة والطب الوقائي بدولة الإمارات العربية المتحدة بتطبيق نظام يعمل بالذكاء الاصطناعي للكشف عن حالات كوفيد 19 بسرعة وبدقة، في حين يُستخدم الذكاء الاصطناعي في تشخيص وعلاج اعتلال الشبكية الناجم عن مرض السكري في المملكة العربية السعودية. وإدراكًا منها للأهمية المتزايدة للصحة العقلية، قامت الشركات الناشئة الإقليمية مثل: uMore و Humacy أيضًا بتسخير قوة الذكاء الاصطناعي وتطوير تطبيقات، تسمح للمستخدمين بمراقبة صحتهم العقلية والحفاظ عليها.
وقد شهدت التكنولوجيا المالية ، والتي تعتبر أكثر النظم البيئية التكنولوجية تمويلًا في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وباكستان، تطورات كبيرة مدفوعة بالذكاء الاصطناعي. وعلى سبيل المثال، فقد قامت شركة Sarwa الناشئة التي تتخذ من دبي مقرًا لها بجمع ما يقرب من 25 مليون دولار كتمويلات اجمالية لإحداث ثورة في التكنولوجيا المالية واستخدام خوارزميات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، مما يمكّن المستخدمين من تداول الأسهم بسهولة وشراء العملات المشفرة واستثمار أموالهم بشكل انفرادي في منصة واحدة.
ومع توقعات الخبراء بشركة ماكنزي بأنه يمكن أتمتة حوالي 45 ٪ من الأعمال الحالية في الشرق الأوسط بحلول عام 2030، فإن التأثير الاقتصادي للذكاء الاصطناعي على منطقة الشرق الأوسط سيكون كبيرًا وسيظل كذلك. وإن عدم المشاركة في السباق لتبني الذكاء الاصطناعي هو ببساطة ليس خيارًا مقبولًا بالنسبة لأي رائد أو شركة يريدان النجاح في ظل هذا النظام البيئي المتجدد