كما علمتنا التجربة بشكل متكرر خلال فترة هذا الوباء وغيره من الكوارث العالمية المماثلة، فإن التغيير يحدث فقط عندما تقع أزمة ما حيث يبادر صناع القرار وقتها بالعمل.
ولربما كان رمزًا للإنسانية نفسها وسعيها في اللحظة الأخيرة للتغيير والتطور في مواجهة الخطر الذي يلوح في الأفق، أننا رأينا دولًا في جميع أنحاء العالم، سواء في "العالم الأول" أو غيره، تسعى إلى التحول والإصلاح على نطاق واسع كرد فعل على هذه الجائحة. حيث تم تنشيط صناعات بأكملها، بينما كافح البعض الآخر لإبقاء رؤوسهم "فوق الماء" بعد فترة إغلاق مطولة وإجراءات للحجر الصحي والتباعد الاجتماعي متقطعة.
وفي حالة القطاع الصحي، الذي تخلف عن معاصريه من القطاعات مثل التكنولوجيا المالية وكذلك الأغذية والمشروبات من حيث التبني الرقمي؛ فقد حظي هذا القطاع أخيرًا بالاهتمام المطلوب من العامة لنقله نقلة نوعية إلى القرن الحادي والعشرين، حيث أن الكثير من التقنيات التي كانت في السابق تعتبر مجرد مشاريع استكشافية أو كماليات قد أصبحت ضرورة إلزامية للحياة في عالم مزقته جائحة فيروسية.
فعلى سبيل المثال، كان التطبيب عن بعد موجودًا منذ سنوات عديدة، ولكن وصول كوفيد 19، جنبًا إلى جنب مع التطورات في مجالات الجيل الخامس وإنترنت الأشياء (IOT) ، دفع كل هذه الأمور من المستقبل البعيد وقربها إلى وقتنا الحاضر. وعلى المستوى الإقليمي، شهدنا ظهور عدد كبير من الشركات الناشئة في هذا المجال. حيث عملت أسماء مثل: "أوكادوك" و"ألما للصحة" و"الطبي" على تطبيع التواصل مع طبيبك الخاص عن بعد وجعل هذا الأمر مألوفًا، مما يوفر بدوره على الأطباء الوقت الذي كانوا سيقضونه في موعد لمشكلة بسيطة كان من الممكن حلها عبر الهاتف أو مكالمة فيديو، سامحاً لهم بتكريس جداولهم للحالات الأكثر خطورة والتي تتطلب مزيدًا من الاهتمام وتخفيف الضغوط عن كاهل العيادات والمستشفيات.
وقد شهد أحد فروع التطبيب عن بعد والمتمثل في "الجراحة عن بعد" نموًا متزايدًا بعد الوباء "كوفيد 19"، والذي يتضمن قيام طبيب متواجد في موقع أو مدينة أو بلد مختلف تمامًا عن المكان الذي يتواجد فيه مريض ما بإجراء عملية جراحية للمريض من خلال استخدام اتصال سريع للإنترنت، والواقع المعزز، وروبوت جراحي مما يمكن الجراح من العمل عن بعد. حيث تحمل الجراحة عن بعد فرصًا عظيمة واعدة عندما تفكر في أنه قد أمكن أخيرًا التغلب على عامل المسافة، خاصة بالنسبة للحالات المرضية النادرة و الخطيرة، مثل سيناريو كوفيد 19 أو غيره، مما يجعل المريض على اتصال بأفضل المواهب الطبية في جميع أنحاء العالم. وعلى الصعيد الإقليمي، تعد شركة "بروكسيمي" إحدى أفضل الشركات الناشئة في هذا المجال، وهي شركة تأسست في بيروت وقامت بتوقيع مذكرة تفاهم مع هيئة الصحة بدبي في عام 2019.
كذلك فقد كان نتج عن المسافة القسرية بين المريض والطبيب نوع من الاعتماد المتزايد على "الأجهزة القابلة للارتداء". فخلال النصف الأول من عام 2021، شهدت مبيعات تلك الأجهزة في الإمارات العربية المتحدة زيادة بنسبة 116% مقارنة بالنصف الأول من عام 2020. وقد وجدت هذه الأجهزة، التي كانت تستخدم في الأصل لأغراض اللياقة البدنية وأحيانًا كصيحات أزياء، استخدامًا مهمًا عندما كان الوباء يجتاح، مما ساعد على تزويد كل من المرضى والأطباء ببيانات حية ومؤشرات صحية لأجسام مستخدميها. وقد وجدت إحدى الدراسات أن الأجهزة القابلة للارتداء يمكنها اكتشاف أعراض كوفيد 19 والتنبؤ بالتشخيص.
تقوم لوحة البيانات التي قدمتها شركة Predictive الناشئة في علم الجينوم، باختبار الحمض النووي الخاص بك للتحقق من مدى قابليتك للإصابة بآلاف الأمراض أو الحالات المزمنة والتأثيرات المحتملة لمئات العقاقير الدوائية عليك.
وبمناسبة الحديث عن التنبؤ، فقد تلقت التحاليل التنبؤية دفعة ملحوظة بعد ظهور فيروس كورونا على نفس القدر من أهمية الحدث. ولدى مواجهة ظاهرة هددت حياة الملايين في جميع أنحاء العالم، أدرك العديد من الخبراء الطبيين أن الشعار القديم المتمثل في "الوقاية خير من العلاج" لا يزال صحيحًا كما كان دائمًا، مما جعلهم يلجؤون إلى التحليلات التنبؤية للتدقيق في كمٍ هائل من البيانات لمحاولة التنبؤ بطفرات العدوى حسب المنطقة، وتحديد الأفراد المعرضين لخطر كبير بالإصابة والتأثر بالفيروس، ومراجعة تأثير تدابير مكافحة كوفيد 19 مثل ارتداء القناع على معدلات الإصابة، وأكثر من ذلك. ساعد هذا الاعتماد المتزايد على التحاليل التنبؤية والاستفادة منها في تطبيع استخدامها وزيادة انتشارها إلى مجالات الطب الأخرى، مما ساعد على التنبؤ باحتمالات التشخيص لأمراض مثل السرطان والحالات المرضية المزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم.
لقد تغير وجه صناعة الرعاية الصحية إلى الأبد بفضل التحول الرقمي الضروري والذي جاء متأخرًا لهذا القطاع. ويمكننا بالتالي القول رسميًا بأن قطاع التكنولوجيا الصحية باق لا محالة، حيث تأقلم معه كل من المرضى والأطباء الممارسين بسبب ما يجلبه من منافع.